صحة

الاكتئاب: مقدمة مختلفة جدًا

الاكتئاب بين العلاج الدوائي والجذور المجتمعية.. هل يكفي الدواء لعلاجه؟ وكيف يصبح المجتمع مصدر قوة للإنسان في مواجهة الاكتئاب؟

future صورة تعبيرية (هل يكفي الدواء لعلاجه؟)

لاحظ أحد الأطباء أن مريضه الذي يعاني من آلام مزمنة وحزن شبه دائم يقود دراجة في الحديقة المحيطة بالمستشفى وهو يغني، ويبدو أن حزنه قد تلاشى أو على الأقل توارى بشكل ملحوظ. عاد الطبيب إلى الملف الخاص بهذا المريض فوجد أنه قد تناول دواءََ جديدََا تحت الاختبار، بدأ من هذه اللحظة اختبار هذا الدواء على 300 من المرضى الذين يعانون من الحزن والاكتئاب. ومع تحسن ملحوظ للحالة المزاجية لأربعين منهم تم الإعلان عن هذا الدواء كأول مضاد للاكتئاب في تاريخ البشر في سبتمبر من عام 1957.

الطبيب هو السويسري رونالد كون، أما الدواء فقد أعطاه رقم G22355 أثناء فترة الاختبار، ثم أعلن لاحقا أن اسمه هو اميبرامين أو كما نعرفه الآن بإسمه التجاري تفرانيل. 

عقب ذلك بما يزيد عن نصف قرن كتب الشاعر المصري العامي مصطفى إبراهيم قصيدتين وسماهما «تفرانيل ٥٠» و«تفرانيل ١٠٠»، كإهداء منه ربما لدواء الاكتئاب الذي لا يزال يتم وصفه حتى الآن. 

حقق تفرانيل نتائج جيدة مع ١٢٪ فقط من المرضى في تجربة رونالد كون رغم ذلك فقد تم استقباله بحفاوة شديدة في أوساط الطب النفسي، تم منذ حينها تطوير عشرات الأدوية المضادة للاكتئاب، العدد يقترب الآن من مائة دواء مضاد للاكتئاب حول العالم. 

هل يكفي الدواء لعلاج الاكتئاب ؟ ما هو الاكتئاب المرضي؟ وهل يمكن أن تؤثر ظروفنا الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية على احتمالية إصابتنا بهذا المرض وفرص علاجنا منه ؟ 

ثورة البروزاك

رغم ظهور مضاد الاكتئاب الأول في نهاية الخمسينيات، إلا أن الأمر استغرق بعض الوقت حتى ظهرت المجموعة الدوائية الأكثر تأثيرََا في تاريخ مضادات الاكتئاب. في نهاية الثمانينات، قام العالم ديفيد وونج، المولود في هونج كونج، وفريقه من الباحثين في شركة إيلي ليلي الأمريكية بتطوير عدد كبير من مضادات الهيستامين لعلاج الحساسية.

أحد هذه المواد اقتنع وونج بأنه قادر على تطويرها لتصبح مضادة بشكل خاص لإعادة امتصاص السيروتونين، الناقل العصبي الذي ربما لديه دور في الإحساس بالسعادة والشعور بالطاقة والرغبة في المبادرة. 

في عام ١٩٨٧، أعلن وونج عن المادة التي حملت اسم Lilly 110140 ثم تم تسميتها «بروزاك» بعد أن حصلت على موافقة هيئة منظمة سلامة الغذاء والدواء الأمريكية كدواء مضاد للاكتئاب. 

حينما بدأت مبيعات البروزاك، أو فلوكستين كما نعرفه كمادة فعالة الآن، لم تكن تتوقع الشركة المنتجة له أنه سيصبح دواءََا ناجحاً. لكنه، عقب ذلك بثلاث سنوات لم يصبح ناجحََا وفقط، بل أصبح في عام ١٩٩٠ أكثر دواء نفسي مبيعا في التاريخ.

يصف كثيرون من علماء الاجتماع والطب النفسي تأثير البروزاك في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات بالثوري، فالدواء حقق ارتفاعََا ملحوظََا في نسب التحسن لدى مرضى الاكتئاب الحاد، كما أنه أيضََا تم تقديمه كدواء آمن، مما شجع الأطباء النفسيين على وصفه لمرضى الاكتئاب البسيط والمتوسط.

هكذا تعرف العالم على عصر مضادات الاكتئاب من نوع SSRI والتى لا تزال حتى الآن الاختيار الأول لعلاج الاكتئاب والوسواس القهري واضطرابات القلق حول العالم.

نتيجة الفاعلية الواضحة للبروزاك، اقتنع الأطباء النفسيين - أو غالبيتهم - في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات أن الاكتئاب مرض يمكن تفسيره وفقط من خلال مشكلة في الناقلات العصبية في المخ، ومع إعادة التركيز للتوازن المطلوب من خلال الأدوية يمكن علاج المرض، في ذلك الحين، تم التسفيه من أي دور للعلاج النفسي غير الدوائي وتم تجاهله في العديد من دول العالم. 

ثالوث بيك المعرفي

بدأت فكرة تغيير الحالة النفسية للبشر من خلال الكلام ربما منذ ألاف السنين. يستخدم البشر منذ عصر المصريين القدماء الحكايات والتدوين لتحقيق قدر من السعادة أو تقليل الحزن. هكذا أيضا يستخدم ملايين المؤمنين بالأديان المختلفة الصلوات لنشر جو من الطمأنينة أو إزاحة الخوف أو التخفيف من الألم الروحي.

مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بدأ سيجموند فرويد وكارل يونغ وآخرون في تطوير التحليل النفسي كطريقة علاجية ضد الأمراض النفسية عمومََا والاكتئاب خصوصََا. ركز علماء التحليل النفسي على اللاوعي والأحلام ودورهما في التأثير في أفكارنا ومشاعرنا. 

من الستينيات إلى التسعينيات خلال القرن العشرين، وفي نفس التوقيت الذي شهد التطور الطبي في فهم الاكتئاب كمرض جسدي وتطوير الأدوية المضادة للاكتئاب، استمر العلاج المعرفي السلوكي في التطور ليصبح مع الوقت هو الطريقة الموصي بها عالميََا لعلاج الاكتئاب البسيط والمتوسط بالإضافة لتوصية واضحة بالجمع بينه وبين الأدوية المضادة للاكتئاب في حالات الاكتئاب الشديد والحاد. 

يعتمد العلاج المعرفي السلوكي على عدة نظريات لفهم سبب حدوث مرض الاكتئاب، أشهرها هو «ثالوث بيك المعرفي» النظرية التي تحمل اسم أرون بيك مؤسس العلاج المعرفي السلوكي نفسه. يرى بيك أن مريض الاكتئاب يحمل رؤية سلبية لنفسه، للمستقبل، وللعالم، وأن هذا الإدراك هو سبب معاناته من الاكتئاب. 

هكذا ترى نظريات العلاج المعرفي السلوكي أن مريض الاكتئاب لديه مجموعة من الأفكار التي تولد مشاعر سلبية، والحل هو التعرف على هذه الأفكار وتفكيكها وتغييرها، وهكذا يتم علاج هذه المشاعر السلبية. كذلك يؤكد هذا النوع من العلاج على التواصل بين الأفكار والمشاعر والسلوك الجسدي، وكيف يمكن التأثير على كل عنصر في هذا الثلاثي من خلال تغيير العناصر الأخرى. فمثلََا، أفكارك السلبية عن نفسك تصيبك بالحزن كما تجعلك منعزل اجتماعيا، وهكذا يقل نشاطك الجسدي.

 لعلاج هذه الأعراض يجب تغيير أفكارك السلبية عن ذاتك. هذا قد يستغرق وقتََا ليس بالقصير، لكن مشاعرك يمكن تغييرها بشكل أسرع من خلال تغيير نشاطك الجسدي. فقط من خلال خطة لأنشطة حركية تقوم بها في الأسابيع الأولى للعلاج، يشعر العديد من المرضى بتغيير سريع في مشاعرهم بشكل إيجابي. 

يستمر العلاج النفسي في التطور، يضع بالكثير من المسئولية على المريض نفسه، بينما تبدو الأدوية النفسية وكأنها تخبر المرضى بأن مسئولية المرض - وبالتالي العلاج - ما هي إلا عملية بيولوجية طبية، لكن أين تقع مسئولية المجتمع ؟ 

الاكتئاب كوباء مجتمعي

هل تعاني من الحزن؟ صور القتلى وضحايا الحرب تطاردك على الشاشات وحتى في أحلامك؟، تعاني اقتصاديا لكسب قوت يومك؟ تنعزل في غرفتك ولا تجد متعة في طعام أو شراب؟ لا تقدر على فعل أي شئ ولا تجد سعادة في كل الأنشطة التي كانت تسعدك من قبل؟، ولا حتى تستطيع النوم بشكل كافِِ لينال جسدك قسطََا من الراحة؟ هل استمرت هذه الأعراض على الأقل في خلال الأسبوعين الماضيين؟ 

إن أجبت على الأسئلة السابقة بنعم هل يعني هذا أنك مصاب بالاكتئاب، وأن الحل في حبة دواء مضاد للاكتئاب، وربما جلسة مع معالج نفسي لتغيير رؤيتك لنفسك وللعالم؟

ما هي مسئولية القاتل في هذه الحرب إذن؟ ما هي مسئولية النظام الاقتصادي والسياسي الذي تعاني منه؟ وما هي مسئولية من يخيفك ويقمعك؟ 

يمكن هكذا تفهم من يرون أن الاكتئاب كتشخيص مرضي حيلة ليقنعوك أنك حزين بسبب عطب فيك، بيولوجيََا أو نفسيََا، أما المجتمع فلا عيب فيه، والنظام ف«يا روحي عليه».

في عام ١٩٧٧ طرح الطبيب النفسي وطبيب الباطنة الأمريكي جورج إنجل النموذج البيولوجي النفسي الاجتماعي biopsychosocial model لفهم الأمراض للمرة الأولى على المجتمع العلمي العالمي. في البداية لم يحظ هذا النموذج بالتقدير الكافي، ولكن منذ عام ٢٠١٧ وهو يعتبر نظرية علمية متفقََا عليها.

يعتمد النموذج على فهم مسببات الأمراض بشكل عام بين ثلاث زوايا، الزاوية الأولى هي الأسباب الجسدية والبيولوجية، الزاوية الثانية هي الأسباب النفسية، والزاوية الثالثة هي الأسباب المجتمعية.

هكذا، كمثال، يمكن فهم أسباب أمراض القلب بين ثلاث زوايا، أولا جينيا وبيولوجيا يمكن أن تحدث أمراض القلب والأوعية الدموية في نفس العائلة، الإصابة بأمراض الضغط والسكري يؤدي لارتفاع نسبة الإصابة أيضاً.

في الزاوية الثانية نفسيََا يصبح التوتر والقلق الدائم مسبب أيضا لارتفاع احتمالية الإصابة بأمراض القلب. وثالثا «اجتماعيََا ومجتمعيََا» العمل في بيئة عمل غير صحية، التنمر، العمل لسنوات طويلة، والعمل المتواصل في نوبات ليلية، كل هذا يصبح مسبب أيضا لارتفاع احتمالية الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية.

هكذا يتطلب العلاج ليس فقط حبة دواء، لكن علاجََا نفسيََا للقلق أيضََا، وكذلك تغييرََا لظروف عملك التي تتسبب في حدوث المرض، هكذا يصبح مرضك مسئولية مشتركة بينك وبين المجتمع. 

بالمثل يصبح هكذا المرض النفسي عمومََا والاكتئاب خصوصََا مسئولية مشتركة بينك وبين المجتمع، وحينما تعيش بين صور القتلى وضحايا الحرب، وكارثة اقتصادية وسياسية تهدد سلامك النفسي، يصبح هكذا علاج الاكتئاب ليس حبة دواء وجلسة كلامية وفقط – وإن كان كلاهما مهم ويمكن الوصول لدرجة استقرار كافية من خلالهما – ولكن لعلاج كل أسباب الاكتئاب نحتاج أيضََا لتغيير اجتماعي، نهاية للحرب، ونهاية للتهديد الاقتصادي والقمع السياسي.

# صحة نفسية # الاكتئاب

سيكولوجية الإنسان المقهور: جذور العنف في مجتمعات التخلف
من أنا؟ عن الحرب المستعرة التي نحرق بها دواخلنا
لماذا يجب أن تحركك قيمك لا إنجازاتك في بيئة العمل؟

صحة